الأطماع الإقليمية لطهران وأزماتها الداخلية تدفعانها إلى المتاجرة بالقضية الفلسطينية.
انقسام بين أجنحة النظام الإيراني أشعل الحرب في غزة
افتعال أزمات خارجية لتحصين الجبهة الداخلية سياسة متأصلة لدى النظام السياسي في إيران. ويقول مراقبون إنه لا يوجد أفضل من النفخ في لهيب القضية الفلسطينية للتنفيس عن احتقان الداخل.
أثارت اعترافات أدلى بها مسؤولون إيرانيون بشأن الدافع الحقيقي وراء التسبب في الحض على إشعال الحرب في قطاع غزة، جدلا واسعا بالنظر إلى مستوى الانتهازية الذي وصل إليه حكام طهران وعدم تورعهم عن التضحية بدماء شعوب المنطقة في سبيل الحفاظ على مراكزهم بالسلطة.
ودارت غالبية الاعترافات حول تسبب النظام الإيراني في الحضّ على حرب في المنطقة دون تورط فيها بشكل كلي بهدف استثمارها في الداخل لتخفيف الضغوط وتشتيت الانتباه عن قضايا المعارضة والانتفاضة. وقال مسؤولون إيرانيون إن النظام مستفيد من حرب غزة التي تتيح تعزيز الهيمنة على دول في المنطقة والإيحاء بالقيام بأدوار مهمة حول العالم، وممارسة المزيد من القمع بحق الإيرانيين ومنع تكرار انتفاضة العام الماضي.
وكشف عضو البرلمان الإيراني حميد رضا حاجي بابائي أن الهدف الحقيقي من حرب غزة هو عرقلة انتفاضة الشعب الإيراني وقمع القوى المنتفضة في الداخل، والسير على نهج الأربعين سنة الماضية التي غلب عليها توظيف الأزمات الخارجية وإثارة الحروب في المنطقة لتجاوز العديد من الأزمات الداخلية والتغلب عليها.
وتتضح من هذه النوعية من التصريحات لممثلين محافظات ومستشارين سياسيين ودينيين في المكتب السياسي العقائدي للمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي سيطرة تصور مفاده ضرورة إبقاء المنطقة مضطربة وإبراز إيران كقوة إقليمية وربما عالمية لجعل المنتقدين والمعارضين في الداخل يظهرون كمن يخونون القوة التي تحمي المسلمين وتدافع عن قضاياهم.
خلافا لما روجه قادة إيرانيون وما أكده الأمين العام لحزب الله اللبناني حسن نصرالله بشأن عدم علم إيران المُسبق بتوقيت عملية طوفان الأقصى، أكد الملا سعيدي رئيس المكتب السياسي العقائدي للمرشد الأعلى في خطاب بثته قناة “باران” الرسمية الإيرانية في الثامن عشر من نوفمبر الجاري مسؤولية النظام الإيراني عن الحدث لكونه “العقل المدبر وقلب المقاومة”.
ويتسق هذا الطرح مع تسلسل الأحداث، ويرجح أن التجهيز لعملية طوفان الأقصى بدأته طهران بالتنسيق مع وكلائها وأذرعها في المنطقة خلال قمع انتفاضة “المرأة والحياة والحرية” التي شملت كل المناطق الإيرانية العام الماضي، بالنظر إلى مضاعفة الدعم المالي لحركة حماس الفلسطينية في التوقيت نفسه، وتلويح المرشد قبيل تنفيذ العملية في الثالث من أكتوبر الماضي بأن “إسرائيل سيتم تدميرها”.
انقسام غير مسبوق
حميد رضا بابائي: الهدف الحقيقي من حرب غزة عرقلة انتفاضة الإيرانيين
ربطت صحيفة “جوان” التابعة لقوات الحرس الثوري الإيراني في الثامن من أكتوبر الماضي بين تصريحات خامنئي في الثالث من الشهر نفسه وانطلاق عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، مؤكدة أن ذلك مؤشر واضح على “علم المرشد الأعلى بهذا الغزو”.
وقال خامنئي يومها “إن الرأي الأكيد للجمهورية الإسلامية الإيرانية هو أن الحكومات التي تتخذ من مقامرة التطبيع مع الكيان الصهيوني نموذجًا لها ستخسر، والخسارة في انتظارها، إنها ترتكب الأخطاء”. وعقب اندلاع الحرب أعرب مسؤولون إيرانيون عن سعادتهم ووصفوا ما يجري بالنصر المؤزر لنظامهم الذي يعزز مكانته في الشرق الأوسط، وقالوا إن العوائد التي يربحونها تستحق دفع المزيد من الدماء.
ما يدعم رواية الدفع باتجاه إشعال صراع في المنطقة، ولو أدى إلى حرب مدمرة كوسيلة لمنع انتفاضة أخرى محتملة في إيران، هو أن التحدي الذي يواجهه النظام لا يقتصر على الغضب الشعبي المتصاعد على خلفية الوضع الاقتصادي المتردي والافتقار إلى الحرية. وتتعلق التقييمات بارتخاء سيطرة الجمهورية الإسلامية على المجتمع، ووجود انقسام غير مسبوق بين أجنحة النظام، ما شكك في استمرارية استعداد وحرص قادة الحرس الثوري على إبقاء النظام الحالي في السلطة.
وفي ظل عدم قدرة النظام الإيراني على تقديم تنازلات كبرى للرأي العام وفقدان عسكريين وبعض رجال الدين الثقة في الجمهورية الإسلامية وشعورهم بعدم الرضا، بات العنوان الفلسطيني شماعة لتوطيد السلطة الدينية داخل إيران في وجه الاحتجاجات الداخلية التي تهدد في كل لحظة بالتحول إلى ثورة عارمة ضد النظام عبر تعزيز النفوذ في المحيط العربي.
وشمل الشعور بالغضب والإحباط في الداخل الإيراني الصفوف العليا للقيادة العسكرية في الجمهورية الإسلامية، وفقًا لوثائق نشرتها “إيران إنترناشيونال” و”إيران واير” في أبريل الماضي، ما يعني أن هواجس النظام مثارة أيضًا بسبب انتقادات تأتي من ضباط مسؤولين عن المحافظات.
وقدمت الوثيقة، وهي عبارة عن ملاحظات وُصفت بالخطيرة والمهمة عن تفاصيل اجتماع عُقد في الثالث من يناير الماضي بين قادة نافذين في الحرس الثوري الإيراني والمرشد الأعلى، صورة سلبية عن استقرار النظام وحالة الحرس الثوري بعكس الصورة السائدة داخل إيران وخارجها.
ونشر المحامي والناشط الحقوقي المقيم في بريطانيا كاوه موسوي على منصة إكس في الرابع من يناير، أي في اليوم الذي أعقب الاجتماع، العديد من الملاحظات التي أبداها ستة من رجال الدين وتسعة وثلاثون ضابطًا تتوزع رتبهم بين لواء وعميد وعقيد، بجانب ردود المرشد الأعلى عليها.
النظام مستفيد من حرب غزة التي تتيح تعزيز الهيمنة على دول في المنطقة والإيحاء بالقيام بأدوار مهمة حول العالم
ولم يُدل المتحدثون من العسكريين لأول مرة بتصريحات صريحة داعمة للاتجاه العام للثورة أو قيادة خامنئي، وأظهرت الانتقادات التي وُجهت إلى المسؤولين على خلفية سوء الإدارة والفساد وعدم الكفاءة شيوع الإحباط لعدم قدرة النظام على تجاوز الأزمات وتخطّي المرحلة الحرجة.
وأوضحت الوثيقة من خلال تعليقات وملاحظات الضباط من مختلف الرتب مدى ما وصلت إليه المعنويات العسكرية من ضعف، عاكسة قلة الاحترام والدعم الذي تظهره الصفوف العليا للقيادة العسكرية تجاه قيادة الحرس الثوري والنظام الحاكم.
واعترف ممثل المرشد الأعلى في الحرس الثوري عبدالله حاجي صادقي بأن معنويات الحرس الثوري في تراجع كبير، وليست في الوضع نفسه الذي كانت عليه خلال العام الماضي. وأدى تضارب المعتقدات والقناعات داخل حوزات قوات “الباسيج” التي يدرس فيها علماء دين شيعة إلى مغادرة الآلاف من الأعضاء في الأشهر الأخيرة.
وفجر محسن كريمي قائد لواء “روح الله” التابع للحرس الثوري الإيراني المتمركز بالقرب من طهران مفاجأة، مفادها أن الإيمان بنظام الجمهورية الإسلامية في أوساط عناصر الحرس تراجع بمقدار النصف، مشيرًا إلى أن بعض الجنود قد جرى اعتقالهم بعد تنظيمهم احتجاجات.
وتضافرت شهادات أدلى بها العديد من قادة الفيالق التابعة للحرس الثوري، ومنهم حسن زاده قائد “فيلق محمد رسول الله” بطهران الكبرى وإحسان خورشدي نائب قائد الحرس الثوري بمحافظة “البرز”، تفيد بتعاطف بعض الجنود مع المحتجين في الشوارع، وحاول كثيرون عرقلة عمل القوات المسلحة وتم ضبط جنود يسرقون بضائع من مستودعات الجيش لتوزيعها على المدنيين.
قُدمت في الاجتماع شكاوى موثقة بالأدلة والتسجيلات بشأن فساد عدد من المسؤولين والقادة بالحرس الثوري الذي يلعب دورًا بارزًا في الكثير من القطاعات الاقتصادية، مثل النقل والطاقة والعقارات، ما يفتح المجال أمام الاختلاس والمحسوبية.
وتبين أن هناك صدعا بين العسكريين والحرس الثوري وصدعا ثانيا داخل الحرس الثوري واهتزاز ثقة بالتوجه الذي تتبعه الجمهورية الإسلامية، فضلًا عن خيبة الأمل داخل أوساط محافظة من أداء حكومة إبراهيم رئيسي، والتي يسيطر عليها المحافظون وعلى كل أدوات سلطة الدولة. وكما أوهمت حماس مختلف الأطراف، ومن ضمنهم إسرائيل، بأنها مهتمة بمستقبلها السياسي وبالحفاظ على الوضع داخل غزة حتى تفاجأ الجميع بإعدادها لهجوم السابع من أكتوبر، أوهمت إيران المعنيين برصد سلوك النظام بأنها لا تهتم إلا بشأنها الداخلي والحد من الاحتجاجات ومنع تجددها.
هناك صدع بين العسكريين والحرس الثوري وصدعا ثانيا داخل الحرس الثوري واهتزاز ثقة بالتوجه الذي تتبعه الجمهورية الإسلامية
ولم تنتبه المعارضة، التي تراقب الأوضاع داخل إيران عن كثب، لما تجهز له السلطة على المستوى الإقليمي والتحضير لإشعال صراع هائل في المنطقة هربًا من الأزمات الداخلية وتوحيد الصف خلف القيادة، لذلك واصلت لفت نظر دول الاتحاد الأوروبي إلى ما يجري بالداخل من تجاوزات وإطلاعها على المستجدات بشأن الانتفاضة.
ويرى معارضون إيرانيون في الخارج أن النظام بحاجة ماسة إلى إثارة صراعات وحروب في المنطقة لاستعادة سيطرته على الوضع الداخلي والحد من الانقسامات بين أجنحة النظام. ويُخضع النظام الإيراني مختلف أجنحته ومكوناته ومواطنين عاديين محبطين من التوترات الحزبية والأزمات المتفاقمة والعقوبات التي استنزفت شريان الحياة الاقتصادي، لفرضية أن القائم في إيران ليس نظام حكم عاديا إنما هو إمبراطورية كبرى تقوم بواجب مقدس ولا مجال للتهاون مع من ينتقدها أو يسعى لزعزعة استقرارها وإضعاف تماسكها.
وكانت إيران أول من أدرك أن فلسطين وكراهية إسرائيل هما أفضل طريقة لتبديد العداءات السنية ضد الشيعة وتوحيد العالم العربي تحت حكمها، وهي أيضا أول من أدرك أنهما خير وسيلة لإخماد القلاقل الداخلية والانقسامات بين أجنحة السلطة. ويصعب أن تقبل طهران بحل الأزمات الإقليمية بمعزل عن مصالحها وحساباتها، وسوف تظل تعارض تأسيس دولة فلسطينية من منطلق مبادرة حل الدولتين، حيث تتطلب أطماعها الخارجية وأزماتها الداخلية مواصلة المتاجرة بالقضية الفلسطينية.
المصدر:العرب