من غزة إلى لندن: ملامح التحول ونهاية عهد ولاية الفقيه
في خضم التحولات العميقة التي يشهدها الشرق الأوسط، حيث أُعيد رسم خرائط النفوذ وموازين القوى على نحو جذري، يجد نظام ولاية الفقيه في إيران نفسه أمام تحديات غير مسبوقة كشفت المستور من سياساته. فالحرب في غزة، وما تلاها من هدنة، لم تكن مجرد حدثٍ عابرٍ في سجل النزاعات، بل شكلت نقطة انعطاف حاسمة في مسار انهيار المشروع الإقليمي لعلي خامنئي.
هذا المشروع، الذي بُني على تصدير الأزمات وإشعال الحروب لدرء الانهيار الداخلي، تحوّل إلى عبء سياسي وأمني ثقيل. كان خامنئي يظن أن إشعال التوترات سيخفف من وطأة الغضب الشعبي ويمنحه متنفسًا أمام العقوبات الدولية، غير أن اتفاق السلام الأخير في غزة فضح أوهامه، وأسقط أسطورة “العمق الاستراتيجي” الذي طالما تباهى به النظام، إذ بات اليوم عبئًا يثقل كاهله بينما تبتعد العواصم العربية عنه تباعًا.
تراجع النفوذ وسقوط محور الوهم
لم يعد لأي دولة عربية استعداد لتغطية مغامرات طهران أو تبرير خطابها الطائفي. فالحروب التي أوقدتها في اليمن وسوريا ولبنان لم تخلّف سوى الخراب والانهيار التدريجي لمكانتها الإقليمية. حتى في الداخل الإيراني، بدأت ملامح التراجع تظهر في نبرة الإعلام الرسمي، حيث تراجعت الصحف التي كانت تمجّد “المقاومة” إلى الاعتراف بظهور “شرق أوسط جديد ضد إيران”، وبأن سياسة إشعال الصراعات لم تكن سوى خطأ استراتيجي كلّف البلاد عزلة دولية واستنزافًا اقتصاديًا هائلًا.
وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن إنفاق طهران على الميليشيات التابعة لها تجاوز 16 مليار دولار حتى عام 2025، ما ابتلع جزءًا كبيرًا من ميزانيتها العامة ودفع اقتصادها نحو حافة الانهيار.
انهيار الوكلاء وسقوط القناع
انهارت ركيزتان أساسيتان في استراتيجية النظام: مفهوم “الوكلاء” كأداة للردع، والخطاب الدعائي الذي قدّم النظام نفسه من خلاله كمدافع عن فلسطين. فالهدنة في غزة لم تكن اتفاقًا سياسيًا فحسب، بل لطمة قوية للمشروع الإيراني القائم على المتاجرة بدماء الشعوب.
وفي المقابل، شكّل مؤتمر شرم الشيخ محطةً مفصلية في التحول الجيوسياسي للمنطقة، إذ جمع قادة المنطقة والرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب ليعلنوا عن رؤية جديدة للسلام تُنهي عقود الصراع وتضع حدًا للتدخلات المدمّرة. وبينما استقبلت العواصم العربية هذا التحول بالأمل، غرقت طهران في القلق. خامنئي الذي كان يراهن على استمرار الحرب في غزة لتأجيل الانفجار الداخلي، وجد نفسه أمام سقوط مدوٍّ لنظريته القائمة على تصدير الأزمات وبناء النفوذ عبر الميليشيات.
حتى صحيفة “جمهوري إسلامي”، المقربة من بيت القيادة، كتبت بمرارة عن “شرق أوسط جديد ضد إيران”، معترفةً بخسارة النظام لنفوذه في لبنان وسوريا واليمن.
الداخل يغلي… والنظام يرد بالإعدامات
في الداخل، ترافق الانحسار الخارجي مع تفاقم الانهيار الاقتصادي، وعودة العقوبات الأممية بعد تفعيل “آلية الزناد” في عام 2025، وتجاوز معدلات التضخم حاجز الـ 50 بالمئة. ومع تآكل أدواته السياسية، لجأ النظام إلى آخر أسلحته: الإعدامات.
تحولت الإعدامات الجماعية إلى وسيلة منهجية لبث الرعب وكبح أي انتفاضة جديدة. ووفقًا لتقارير منظمة العفو الدولية حتى تشرين الأول (أكتوبر) 2025، نفذت إيران أكثر من 800 إعدام، 70 بالمئة منها بحق معتقلين سياسيين أو محتجين. أي إن شخصًا يُعدم كل ثلاث ساعات ونصف، في مشهد يجسد وحشية النظام أمام العالم.
لندن… صوت الإنسانية في مواجهة القمع
لكن آلة الموت هذه لم تعد تمر بصمت. ففي اليوم العالمي لمناهضة الإعدام (10 تشرين الأول – أكتوبر)، احتضنت لندن مؤتمرًا دوليًا كبيرًا شارك فيه مئات البرلمانيين ونشطاء حقوق الإنسان من أوروبا وأميركا. دعا المجتمعون إلى اتخاذ إجراءات حازمة لوقف الإعدامات ومحاسبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في إيران.
وجاء البيان الختامي، الموقّع من أكثر من 500 شخصية دولية، ليؤكد ضرورة ربط أي علاقة مع طهران بوقف الإعدامات فورًا. وكانت كلمة السيدة مريم رجوي، الرئيسة المنتخبة للمجلس الوطني للمقاومة الإيرانية، ذروة المؤتمر، حيث شددت على أن الإعدامات تمثل الوسيلة الوحيدة لبقاء نظام غارق في الأزمات ويخشى شعبه. وأعادت التأكيد على برنامج المقاومة المؤلف من عشر نقاط، الداعي إلى الحرية والمساواة وفصل الدين عن الدولة كأسس للبديل الديمقراطي، وهو البرنامج الذي يحظى بدعم واسع داخل صفوف المعارضة الإيرانية.
نهاية مرحلة وبداية أخرى
تزامن فشل النظام في غزة مع فضيحة حقوق الإنسان في الداخل ليكشف وجهه الحقيقي: نظام عاجز خارجيًا، دموي داخليًا. لم يعد بمقدوره التستر وراء شعار “محور المقاومة”، فمحوره اليوم هو الخوف من السقوط.
وفي المقابل، تتعزز مكانة المقاومة الإيرانية بوصفها البديل الديمقراطي الوحيد القادر على إنقاذ البلاد من الكهنوت السياسي. من شرم الشيخ إلى لندن، تُكتب الفصول الأخيرة لعهد “رأس الأفعى” — نظامٍ فقد أدواته الخارجية، وحبل مشنقته الداخلي، ووصل إلى نهاية الطريق.
إنَّ هذه التحولات لا تمهّد لسلامٍ إقليمي فحسب، بل تبشر بولادة فجر الحرية في إيران، حيث يستعد الشعب، بتنظيم متصاعد وإرادة راسخة، لانتزاع مستقبله وبناء جمهورية الحرية والعدالة.


