زمن الغروب الإيراني …آتٍ
حنا صالح -كاتب لبناني
المشهد الدولي مختلف ومتغير، والحرب الاقتصادية «الناعمة» تهزُّ العالم اقتصادياً وسياسياً. العقوبات الأميركية القاسية على بيونغ يانغ تحمل الرئيس الكوري الشمالي كيم إلى قمة مع الرئيس الأميركي ترمب والعنوان:
«شبه الجزيرة الكورية خالٍ من السلاح النووي». إعلان البيت الأبيض الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران يقابله انهيار مريع في سعر صرف الريال قبل أن توضع الحزمة الأولى من العقوبات الأميركية في حيز التطبيق… وكبريات الشركات العالمية فسخت عقودها وانسحبت من السوق الإيرانية رغم مواقف التشجيع لهذه الشركات على البقاء والصادرة عن الاتحاد الأوروبي وعواصم مثل برلين وباريس وبروكسل ومعها لندن.
القرارات – الرسوم الجمركية الكبيرة تربك بكين وأوروبا وكندا وغيرها… والعقوبات على القطاع المصرفي الروسي تهدد بشلل في الاتحاد الروسي.
أما تردد تركيا وتعثر عملية إطلاق القس الأميركي فقد جلبا العقوبات على وزيري الداخلية والعدل التركيين، وتراجعاً حاداً في سعر صرف الليرة، وتؤدي الضرائب على الصلب التركي إلى انهيار، فتتراجع الليرة نحو 20 في المائة في يوم واحد، ولا يبقى بيد إردوغان إلا تكرار مناشدة مواطنيه تحويل مدخراتهم من العملات الأجنبية والذهب إلى الليرة التركية لحمايتها وحماية الاقتصاد من انهيار دراماتيكي، وتنفي أنقرة ما تردد عن احتمال وضع اليد على مدخرات الناس (!!) وهذا النفي يعطي فكرة عن حجم الهلع الذي تعيشه القيادة التركية وما يمكن أن تقوم به.
«حزب الله» بعد نحو 6 سنوات من القتال دفاعاً عن النظام السوري، الذي كلف ألوف القتلى والجرحى والمعوقين، سيعود وهو مثقل بالجراح، لكن مع خطاب انتصاري موجه للداخل اللبناني، عن دحر التكفيريين وحماية الحدود وإبعاد كل أشكال التهديد عن دمشق، مع تجاهل كامل لحقيقة أن ميزان القوى الذي تمسك به موسكو يحول دون جعل سوريا ساحة نفوذٍ لحكام طهران وأذرعتها العسكرية ومنها «حزب الله».
وبالتأكيد سيكون هناك تجاهل كامل لاستعادة موسكو التحالف القديم بين دمشق وتل أبيب المستند لاتفاقية فصل القوات في الجولان عام 1974؛ تحالف كان تحت الطاولة وأصبح الآن فوقها، وتعلن تل أبيب دعمها الصريح لاستمرار النظام السوري المؤتمن على حراسة حدود الاحتلال في الجولان وبالتالي تثبيت الوضع الذي نشأ عن احتلال عام 1967 بشكل دائم، وهنا بالضبط حدث السر الأبرز الذي سهّل انعقاد قمة هلسنكي الأميركية – الروسية.
بدورها، تراجعت طهران بهدوء إلى شمال دمشق والغوطتين، فأعلنت موسكو أن إيران قبلت الانسحاب مسافة 85 كيلومترا بعيداً عن الجولان تلبية لمطالب إسرائيل وتجنباً لمواجهة بين الجانبين في سوريا، وباتت من الماضي صفحة إقامة قواعد ثابتة لـ«الحرس الثوري»؛ إحداها قاعدة جوية في القلمون، والثانية قاعدة بحرية على المتوسط. الواقعية تفيد بأن الدخول الروسي الذي أنقذ طهران من فشل ذريع فوق الميدان السوري، أنقذ أيضاً النظام السوري، لكنه غيّر أسس اللعبة، وباتت روسيا التي أنجزت تحالفاً عميقاً مع إسرائيل؛ وحدها الجهة التي تحدد أحجام الآخرين وحدود نفوذهم.
هذا التحول لم يفت طهران، فسعت للتكيف لتقول بلسان مستشار خامنئي إن وجود المستشارين والحرس الثوري «لم يكن يوماً يستهدف إسرائيل»، ومؤخراً أعلن الناطق باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي أن بلاده «يمكن أن تخفض أو تنهي وجودها الاستشاري في سوريا في حال شعرت باستقرار نسبي هناك».
طبعاً هذا الحديث الإيراني جديد ومغاير لكل المواقف السابقة من أن الوجود الإيراني في سوريا شرعي ورسمي وغير قابل للنقاش!! كذلك هو مغاير لكل تلك الدعاية الزائفة عن العداء الإيراني لإسرائيل، وأن وجود «فيلق القدس» وكل الميليشيات التابعة له إنما هو لاقتلاع الكيان الصهيوني؛ فإذ بالتطورات تكشف أن كل الوجود الإيراني في سوريا رهن بقرار إسرائيل وتوقيتها.
طبعاً من الصعب التصور، رغم المتغيرات الكبيرة في سوريا، وسعي روسيا لتوافقات مع أميركا، أن حكام طهران في وارد العودة عن النهج الخطير الذي أرساه الخميني، وهو نهج التدخل للهيمنة على دول المنطقة، وبالتالي اعتبار ما سُمي «الهلال الشيعي» مدى حيوياً للمصالح الإيرانية. بالتالي؛ لا يمكن لعاقل أن يتصور أن نظام الملالي سيتنازل بسهولة عما يعدّها حصته في الكعكة السورية بعد استثمارات بلغت عشرات مليارات الدولارات وألوف القتلى.
اليوم أكثر من أي وقت مضى ستتمسك طهران بهذا النهج، خصوصاً أن النظام الإيراني بين مطرقة العقوبات الأميركية (التي ستبلغ الذروة في 4 نوفمبر/ تشرين الثاني مع القيود على تصدير النفط)، وسندان الانفجار الداخلي؛ حيث أخرج الفقر والبطالة كل الأعراق الإيرانية إلى الشارع، فسعى خامنئي لتخدير المحتجين أملاً في استيعاب حركتهم عندما أعلن أن سوء الإدارة أخطر من العقوبات الأميركية، وأن النجاح في محاربة الفساد طريق الانتصار على العقوبات. تزامن ذلك مع تهم بالفساد طالت كثيراً من الرموز وأركان النظام، مثل صادق لاريجاني رئيس السلطة القضائية، وحسن روحاني رئيس الجمهورية، وبعض كبار قادة «الحرس الثوري»، كما أقيمت محاكم ثورية لمتهمين بارتكاب جرائم اقتصادية!!
ولأن حكام طهران ليسوا في وارد التسليم أمام الضغوط المتدحرجة، فالخطورة تكمن في تشدد إيران باستخدام العراق ولبنان لفرض حكومات موالية، تُلبي حاجة طهران في مخططها للالتفاف على العقوبات (…)، والدليل الأبرز الرد العنيف على موقف رئيس وزراء العراق حيدر العبادي الذي وصف العقوبات بأنها خطأ استراتيجي وأنه لا يؤيدها لكن العراق سيلتزم بها دفاعاً عن مصالح العراقيين، فكان أن أُرغم على التراجع والإعلان عن الالتزام فقط بعدم التعامل بالدولار مع إيران و«ليس الالتزام بالعقوبات الأميركية».
ولن يتأخر الوقت حتى يتحرك «حزب الله» في لبنان في محاولة للاستحواذ على قرار البلد لتنفيذ الأجندة الإيرانية من خلال الحكومة الجديدة، خصوصاً أنه حتى تاريخه تسود حالة لبنانية رمادية حيال العقوبات ومدى التقيد بها.
هذا الوضع يرتب مسؤوليات جساماً على كل الطبقة السياسية المسؤولة عن البلد وأهله، وهي من تسبب بوضع اللبنانيين تحت رحمة المحاصصة الطائفية والفساد والتبعية للخارج ومصالح محور «الممانعة والمقاومة»، والجهات التي تظن أن قاسم سليماني ينفذ تراجعاً تكتيكياً مؤقتاً في سوريا، ما عليها إلا التمعن بالنموذج الكوري الشمالي النووي، والاستماع إلى الخطب اليومية للرئيس التركي، لتتأكد من أن زمن غروب هذه الاستباحة والهيمنة الإيرانية عن المشرق العربي آتٍ ولن يتأخر.
نقلاً عن الأشرق الأوسط